بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ
وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[183-185]
تفسير ابن عباس رضي الله عنه
{ ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ } فرض { عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ } فرض { عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ } بالعدد ويقال كتب عليكم الصيام فرض عليكم الصيام بترك الأكل والشرب والجماع بعد صلاة
العتمة أو النوم قبل صلاة العتمة { كَمَا كُتِبَ } فرض { عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ } من أهل الكتاب { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } لكي تتقوا الأكل والشرب والجماع بعد صلاة العشاء أو النوم قبل صلاة
العشاء وهذا منسوخ بقوله { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث } بقوله { وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض } { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } ثلاثين يوماً مقدم ومؤخر { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ
على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } فليصم من أيام أخر بقدر ما أفطر من رمضان { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ } يعني يطيقون الصوم { فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } فليطعم مكان كل يوم أفطر نصف صاع
من حنطة لمسكين وهذه منسوخة بقوله { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشهر فَلْيَصُمْهُ } ويقال { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ } يعني الفدية ولا يطيقون الصوم يعني الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة لا يطيقان
الصوم فدية طعام مسكين فليطعمان مكان كل يوم أفطرا من رمضان نصف صاع من حنطة لمسكين { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً } زاد على منوين { فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ } بالثواب { وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ
لَّكُمْ } من الفدية { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } إذا كنتم تعلمون { شَهْرُ رَمَضَانَ الذي } هو الذي { أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } جبريل بالقرآن جملة إلى سماء الدنيا فأملاه على السفرة ثم نزل به بعد ذلك على
محمد صلى الله عليه وسلم يوماً بيوم آية وآيتين وثلاثاً وسورة { هُدًى لِّلنَّاسِ } القرآن بيان من الضلالة للناس { وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى } واضحات من أمر الدين { والفرقان } الحلال والحرام
والأحكام والحدود والخروج من الشبهات { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشهر } في الحضر { فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً } في شهر رمضان { أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ } فليصم { مِّن أَيَّامٍ أُخَرَ } بقدر ما
أفطر { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر } أراد الله بكم رخصة الإفطار في السفر ويقول اختار الله لكم الإفطار في السفر { وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } لم يرد أن يكون لكم العسر في الصوم في السفر
ويقال لم يختر لكم الصوم في السفر { وَلِتُكْمِلُواْ العدة } لكي تصوموا في الحضر عدة ما أفطرتم في السفر { وَلِتُكَبِّرُواْ الله } لكي تعظموا الله { على مَا هَدَاكُمْ } كما هداكم لدينه ورخصته
{ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } لكي تشكروا رخصته
تفسير الإمام السعدي رحمه الله
يخبر تعالى بما منَّ به على عباده، بأنه فرض عليهم الصيام، كما فرضه على الأمم السابقة، لأنه من الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كل زمان.
وفيه تنشيط لهذه الأمة، بأنه ينبغي لكم أن تنافسوا غيركم في تكميل الأعمال، والمسارعة إلى صالح الخصال، وأنه ليس من الأمور الثقيلة، التي اختصيتم بها.
ثم ذكر تعالى حكمته في مشروعية الصيام فقال: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى، لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه.
فمما اشتمل عليه من التقوى: أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها، التي تميل إليها نفسه، متقربا بذلك إلى الله، راجيا بتركها، ثوابه، فهذا من التقوى.
ومنها: أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى، فيترك ما تهوى نفسه، مع قدرته عليه، لعلمه باطلاع الله عليه، ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الشيطان، فإنه يجري من ابن آدم
مجرى الدم، فبالصيام، يضعف نفوذه، وتقل منه المعاصي، ومنها: أن الصائم في الغالب، تكثر طاعته، والطاعات من خصال التقوى، ومنها: أن الغني إذا ذاق ألم الجوع، أوجب له ذلك، مواساة الفقراء المعدمين، وهذا من خصال التقوى.
ولما ذكر أنه فرض عليهم الصيام، أخبر أنه أيام معدودات، أي: قليلة في غاية السهولة.
ثم سهل تسهيلا آخر. فقال: { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وذلك للمشقة، في الغالب، رخص الله لهما، في الفطر.
ولما كان لا بد من حصول مصلحة الصيام لكل مؤمن، أمرهما أن يقضياه في أيام أخر إذا زال المرض، وانقضى السفر، وحصلت الراحة.
وفي قوله: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ } فيه دليل على أنه يقضي عدد أيام رمضان، كاملا كان، أو ناقصا، وعلى أنه يجوز أن يقضي أياما قصيرة باردة، عن أيام طويلة حارة كالعكس.
وقوله: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي: يطيقون الصيام { فِدْيَةٌ } عن كل يوم يفطرونه { طَعَامُ مِسْكِينٍ } وهذا في ابتداء فرض الصيام، لما كانوا غير معتادين للصيام، وكان فرضه حتما، فيه
مشقة عليهم، درجهم الرب الحكيم، بأسهل طريق، وخيَّر المطيق للصوم بين أن يصوم، وهو أفضل، أو يطعم، ولهذا قال: { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}
ثم بعد ذلك، جعل الصيام حتما على المطيق وغير المطيق، يفطر ويقضيه في أيام أخر [وقيل: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي: يتكلفونه، ويشق عليهم مشقة غير محتملة، كالشيخ الكبير،
فدية عن كل يوم مسكين وهذا هو الصحيح]
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } أي: الصوم المفروض عليكم، هو شهر رمضان، الشهر العظيم، الذي قد حصل لكم فيه من الله الفضل العظيم، وهو القرآن الكريم، المشتمل على
الهداية لمصالحكم الدينية والدنيوية، وتبيين الحق بأوضح بيان، والفرقان بين الحق والباطل، والهدى والضلال، وأهل السعادة وأهل الشقاوة.
فحقيق بشهر، هذا فضله، وهذا إحسان الله عليكم فيه، أن يكون موسما للعباد مفروضا فيه الصيام.
فلما قرره، وبين فضيلته، وحكمة الله تعالى في تخصيصه قال: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } هذا فيه تعيين الصيام على القادر الصحيح الحاضر.
ولما كان النسخ للتخيير، بين الصيام والفداء خاصة، أعاد الرخصة للمريض والمسافر،
لئلا يتوهم أن الرخصة أيضا منسوخة [فقال] { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }
أي: يريد الله تعالى أن ييسر عليكم الطرق الموصلة إلى رضوانه أعظم تيسير، ويسهلها أشد تسهيل، ولهذا كان جميع ما أمر الله به عباده في غاية السهولة في أصله.
وإذا حصلت بعض العوارض الموجبة لثقله، سهَّله تسهيلا آخر، إما بإسقاطه، أو تخفيفه بأنواع التخفيفات.
وهذه جملة لا يمكن تفصيلها، لأن تفاصيلها، جميع الشرعيات، ويدخل فيها جميع الرخص والتخفيفات.
{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ } وهذا - والله أعلم - لئلا يتوهم متوهم، أن صيام رمضان، يحصل المقصود منه ببعضه،
دفع هذا الوهم بالأمر بتكميل عدته، ويشكر الله [تعالى] عند إتمامه على توفيقه وتسهيله وتبيينه لعباده،
وبالتكبير عند انقضائه، ويدخل في ذلك التكبير عند رؤية هلال شوال إلى فراغ خطبة العيد .
....... يُتبع
الموضوع الأصلي : إتحاف الأنام بتفسير آيات الصيام لجمع من الأئمة الأعلام المصدر : منتدى رحيق الفردوس