حكم مكث الحائض بالمسجد:
هذه المسألة قريبة من المسألة السابقة، إذ المسألة السابقة في حكم المرور والعبور بالنسبة للحائض، وقد منع ذلك الأكثرون، وأجازها البعض الآخرون، أما هذه المسألة فهي مكث الحائض ولبثها في المسجد، أي هل يجوز للحائض أن تدخل المسجد وتلبث وتمكث فيه. وقبل الخوض في هذه المسألة أقدم ببعض المقدمات:
1 - قد سبق في مبحث سابق أهمية صيانة المسجد عن النجاسة والقذارة، وحث الشارع الحكيم على تنظيف المسجد وتطييبه، وأن المسلم ينبغي أن يحرص على نظافة بيوت الله من النجاسات، ولذلك اتفق الجميع على أن الحائض إن لم تأمن تلويث المسجد فلا يجوز لها الدخول فيه سواء لبثا أو مرورا، والعلة في ذلك وجود النجاسة، التي تتسبب بتلويث المسجد، ولا يمكن صونه عنها، وهذا يصدق على الحائض وغير الحائض، ولذلك قال النووي: (والمستحاضة وسلس البول ومن به جرح سائل ونحوهم إن خافوا التلويث حرم العبور) ( ).
وقال في موضع آخر: (ولو أرادت العبور في المسجد، فإن خافت تلويثه لعدم إحكامها الشد أو لغلبة الدم، حرم العبور عليها، ولا يختص هذا بها، بل المستحاضة، والسلس، ومن به جراحة نضاخة يحرم عليهم العبور إذا خافوا التلويث) ( ).
وقال ابن قدامة: (فأما المستحاضة ومن به سلس البول فلهم اللبث في المسجد والعبور، إذا أمنوا تلويث المسجد ... فإن خاف تلويث المسجد فليس له العبور، فإن المسجد يصان عن هذا، كما يصان عن البول فيه، ولو خشيت الحائض تلويث المسجد بالعبور فيه لم يكن لها ذلك) ( ).
ونص على هذا أيضا الشربيني الخطيب حيث يقول فيما يحرم بالحيض: (عبور المسجد إن خافت تلويثه، صيانة للمسجد عن النجاسة، فإن أمنته جاز لها العبور كالجنب ... ولا خصوصية للحائض بهذا، بل كل من به نجاسة يخاف تلويث المسجد منها، مثلها كمن به سلس البول واستحاضة، ومن بنعله نجاسة رطبة، فإن أراد الدخول به فليدلكه قبل دخوله)( ).
وفي مواهب الجليل: (ولا ينبغي للحائض أن تدخل المسجد، لأنها لا تأمن أن يخرج من الحيضة ما ينزه عنه المسجد)( ).
وقال العيني: (... لو خافت تلويث الدم إما لغلبة الدم، وإما أنها لم تستوثق فليس لها العبور صيانة له، وكذا المستحاضة ومن به سلس البول) ( ).
وقال المرداوي: (وأما إذا خافت تلويثه: لم يجز لها العبور على الصحيح من المذهب)( ).
فاتضح من نصوص الفقهاء أن الجميع متفق على منع دخول الحائض المسجد مطلقا إن لم تأمن تلويث المسجد، حالها كحال من به نجاسة كالمستحاضة ومن به سلس البول ونحوهم.
2 - أن الحال اليوم يختلف عن الحال عند الأولين، فبفضل التقدم الحضاري بعد فضل الله عز وجل أصبحت المرأة في وضع أحسن من مثيلاتها في السابق، إذ تستطيع المرأة أن تتحفظ عن النجاسة بشكل دقيق ومضمون، فتمنع من وقوع النجاسة في أي مكان، فلا يقع ما كان يخشاه الفقهاء الأقدمون من عدم الأمن من تلويث المسجد، فوجب التنبه إلى هذا الأمر حين الدخول في بحثنا هذا.
3 - أنه ينبغي على المرأة أن تعلم أن جلوسها في بيتها خير لها من الذهاب إلى المسجد، فالأصل قرار المرأة في البيت وفي ذلك نصوص كثيرة منها:
أ – عن أم حميد – رضي الله عنها – أنها جاءت إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقالت: يا رسول الله إني أحب الصلاة معك، قال: "قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي هذا"( ).
ب – عن أم سلمة – رضي الله عنها – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "خير مساجد النساء قعر( ) بيوتهن"( ).
ج – عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن"( ).
د – قال ابن مسعود – رضي الله عنه-: وإن المرأة لتخرج من بيتها وما بها من بأس فيستشرفها الشيطان فيقول: أين تريدين؟ لا تمرين بأحد إلا أعجبته، وإن المرأة لتلبس ثيابها فيقال: أين تريدين؟ فتقول: أعود مريضا، أو أشهد جنازة، أو أصلى في مسجد، وما عبدت امرأة ربها مثل أن تعبده في بيتها. ( )
فهذه النصوص تبين أن الأصل في المرأة القرار في البيت، امتثالا لقول الله تعالى: "وقرن في بيوتكن"( )، وأن صلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في المسجد، إلا إن احتاجت إلى الذهاب، لضعف إيمانها مثلا، أو لسماع محاضرة مفيدة، أو حضور دعاء المسلمين، فعندئذ لا حرج عليها في الذهاب.
4 - أن بعض الفقهاء قد نقل الإجماع على عدم جواز لبث الحائض في المسجد كالزيلعي حيث يقول: (ولا يجوز له – أي الجنب – اللبث فيه إجماعا، فوجب أن لا يجوز له الدخول فيه كالحائض ... ) ( ).
وكذا ابن قاسم الحنبلي حيث يقول: (وكذا يحرم اللبث في المسجد إجماعا ولو أمنت التلويث بل تمنع من الجلوس فيه بالكلية ...)( ).
وأشار النووي إلى الاتفاق عند الشافعية، ويفهم منه اتفاق الجميع بقوله: (يحرم على الحائض والنفساء مس المصحف وحمله واللبث في المسجد وكل هذا متفق عندنا) ( ).
ونقل الإجماع أيضا ابن بطال في شرحه للبخاري حيث يقول: (والعلماء مجمعون أن الحائض لا يجوز لها دخول المسجد ولا الاعتكاف فيه) ( ).
وكذا ابن رشد حيث يقول في أحكام الحائض: (فأما العشرة المتفق عليها: ... والسابع دخول المسجد) ( ).
هذه بعض نصوص الفقهاء ممن نقل الإجماع على تحريم مكث الحائض في المسجد، وهذا النقل للإجماع غير صحيح ولا دقيق، إذ إن الفقهاء مختلفون في هذه المسألة، وأقوالهم في ذلك مشهورة، فهناك قول عند المالكية، وقول عند الشافعية، ورواية عند الحنابلة، ومذهب الظاهرية، وكلهم فقهاء معتبرون يعتد بأقوالهم، فكيف ينقل الإجماع والخلاف موجود وظاهر، فتبين من هذا أن مسألة حكم مكث الحائض في المسجد مسألة خلافية وليست اتفاقية كما يظنها البعض.
5 - أنه ينبغي أن يعلم أن الحق أحق أن يتبع، وأن الحق فيما قاله الرب عز وجل، أو قاله رسوله – صلى الله عليه وسلم – أو أجمعت عليه الأمة، فلا يعرف الحق بالكثرة بل بالدليل، بشرط أن لا يشذ الإنسان فيأتي بقول لم يسبق إليه وليس له فيه سلف.
وبعد عرض هذه المقدمات أشرع في ذكر مسألة حكم مكث الحائض في المسجد، وقد اختلف فيها الفقهاء على قولين:
القول الأول: لا يجوز للحائض أن تمكث في المسجد. وهو مذهب جمهور الفقهاء.
جاء في الهداية: (ولاتدخل المسجد وكذا الجنب لقوله عليه الصلاة والسلام: "فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب")( ).
وقال ابن عابدين: (ويمنع – أي الحيض – من دخول مسجد)( ).
وبين الحطاب قول مالك في المسألة حيث يقول: (وقال اللخمي: اختلف في دخول الحائض والجنب المسجد فمنعه مالك ...) ( ).
وقال الصاوي: (ويحرم على الحائض أيضا دخول مسجد ...) ( ).
ويقول الشيرازي مبينا قول الشافعية: (ويحرم اللبث في السمجد) ( ).
وقال الماوردي: (فحيض المرأة يتعلق به سبعة أحكام .. والرابع دخول المسجد) ( ).
وقد نقل رأي الحنابلة المرداوي بقوله: (تمنع الحائض من اللبث في المسجد مطلقا على الصحيح من المذهب، وعليه جمهور الأصحاب) ( ).
وقال ابن مفلح: (ويمنع – أي الحيض – اللبث في المسجد)( ).
دليل أصحاب هذا القول: ( )
استدل الجمهور القائلون بتحريم لبث الحائض في المسجد بأدلة منها:
1 - قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لاتقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ..." ( ).
فمنع الجنب من الصلاة – أي مواضع الصلاة وهي المساجد – إلا في حالة كونه عابر سبيل، والحائض كالجنب فلا يجوز لها أن تمكث في المسجد كالجنب.
نوقش هذا الاستدلال:
بأن هناك فرقا بين الجنب والحائض، فالجنب يستطيع أن يتطهر، ففي الآية تنبيه وحث للجنب على سرعة التطهر، وهذا بخلاف الحائض التي لا تملك التطهر إلا بعد طهارتها.
2 - حديث عائشة – رضي الله عنها – وفيه يقول النبي – صلى الله عليه وسلم-: "لا أحل المسجد لحائض ولا جنب"( ).
ووجه الدلالة ظاهر في منع الحائض من المكث في المسجد، حيث إن نفي الحل يدل على المنع والتحريم. ( )
نوقش الاستدلال بهذا الحديث:
بأن الحديث ضعيف برواياته ولا يصح، إذ فيه رواة ضعاف مثل: أفلت بن خليفة، ومحدوج الهذلي، وأبوالخطاب الهجري، وعطاء الخفاف، وإسماعيل، ومحمد بن الحسن، وكثير بن زيد، وجسرة بنت دجاجة.
وقد ضعفه جمع من أهل العلم منهم ابن المنذر( )، والبيهقي( )، وابن حزم( )، وعبدالحق الأشبيلي( )، والنووي( )، والبوصيري( )، والألباني( ).
وإذا ثبت ضعف الحديث فلا يجوز أن يناط به حكم شرعي، خصوصا وقد وردت نصوص عامة تجيز المكث للحائض كما سيأتي.
3 - حديث أم عطية في مصلى العيد وفيه قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: "ويعتزل الحيض المصلى"( ).
ووجه الدلالة من هذا الحديث هو أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – للحيض باعتزال المصلى، مع أنه ليس مسجدا، مما يدل على منع الحائض من دخول المسجد والمكث فيه. ( )
نوقش هذا الاستدلال:
بأن منع الحائض من المصلى له حكمة، وهي أن في وقوفهن وهن لا يصلين مع المصليات إظهار الاستهانة بالحال، فاستحب لهن اجتناب ذلك.( )
بل يمكن قلب هذا الاستدلال فيقال: بل الحديث دليل على جواز مكث الحائض في المسجد، إذ إن النبي – صلى الله عليه وسلم – سمح للحائض بحضور المصلى، بل أمرها بذلك، ثم أمرها بأن تعتزل المصلى، واليوم النساء في معزل عن الرجال، في مصليات منفصلة عن مسجد الرجال، وفي اعتزال تام، فلو جلست الحائض في مصلى النساء داخل المسجد، معتزلة صفوف النساء جانب المسجد، لاستطاعت أن تجلس وتسمع المحاضرات والدروس الشرعية، مما له نفع عظيم عليها.
4 - عن عروة – رضي الله عنه – قال: أخبرتني عائشة – رضي الله عنها – أنها كانت ترجل( ) – يعني رأس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهي حائض، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – حينئذ مجاور( ) في المسجد، يدني لها رأسه وهي في حجرتها فترجله وهي حائض. ( )
ووجه الدلالة من الحديث أن عائشة – رضي الله عنها – لم تدخل المسجد لأنها حائض، فكانت ترجل النبي – صلى الله عليه وسلم – وهي خارج المسجد، وهو يدني لها رأسه، مما يدل على عدم جواز دخول الحائض المسجد.
قال ابن بطال في الحديث: (وفيه أن الحائض لا تدخل المسجد تنزيها له وتعظيما) ( ).
وقال ابن حجر في فوائد الحديث: (... وأن الحائض لا تدخل المسجد) ( ).
وقال العيني: (وفيه أن الحائض لا تدخل المسجد تنزيها له وتعظيما) ( ).
نوقش الاستدلال بهذا الحديث:
بأنه ليس صريحا في منع الحائض من دخول المسجد إذ إن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان معتكفا، وعائشة – رضي الله عنها – جالسة في غرفتها، والمعروف أن المرأة لا تخرج من بيتها إلا لحاجة، ولم يكن ترجيل النبي – صلى الله عليه وسلم – أمرا صعبا و عسيرا، إذ يكفي أن يُخرِج النبي – صلى الله عليه وسلم – رأسه من المسجد وعائشة – رضي الله عنها – ترجله وهي في حجرتها التي هي ملاصقة للمسجد.
ثم إن هناك احتمالا آخر، وهو أنه قد يكون بالمسجد رجال ولم يحب النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يطلعوا على حرمه الشريف، فلذلك لم تدخل عائشة – رضي الله عنها.
5 - أن المساجد منزهة عن النجاسات والقاذورات ويجب صيانتها منها، والحائض ليست نجسة في نفسها لكن دمها الخارج منها نجس، فلذلك تمنع من المكث في المسجد صيانة له ونظافة.
نوقش هذا الاستدلال:
بأن العلة من منع الحائض المكث في المسجد هي نجاسة الدم وهذا لا خلاف فيه، حيث اتفق الفقهاء على منع الحائض من دخول المسجد إن لم تأمن التلويث، أما إن أمنت تلويث المسجد بالتحفظ الجيد، وهو أمر سهل ويسير اليوم بخلاف العصر السابق، فلا تمنع حينئذ.
القول الثاني: يجوز للحائض أن تمكث في المسجد. وهو قول محمد بن مسلمة من المالكية، والمزني من الشافعية، وقول عند الحنابلة بشرط الوضوء، وقول ابن حزم الظاهري. وإليك توثيق أقوالهم:
قال الونشريسي: (... ومن ثم ذهب ابن مسلمة من أصحابنا – أي المالكية – إلى جواز دخول الجنب والحائض المسجد وقيامها فيه، وتستثفر( ) الحائض) ( ).
وقال القرافي مبينا رأي المالكية في عدم جواز مكث الحائض في المسجد: (وأما المسجد فلقوله عليه السلام: "لايحل المسجد لحائض ولا جنب" قال المازري: وأجازه ابن مسلمة وقال: هما طاهران وإنما يُخشى من دم الحيض) ( ).
وقال الحطاب: (وقال اللخمي: اختلف في دخول الحائض والجنب المسجد، فمنعه مالك، وأجازه زيد بن أسلم إذا كان عابر سبيل، وأجازه محمد بن مسلمة جملة وقال: لا ينبغي للحائض أن تدخل المسجد، لأنها لا تأمن أن تخرج من الحيضة ما ينزه عنه المسجد، ويدخله الجنب لأنه يأمن ذلك، قال: وهما في أنفسهما طاهران سواء، وعلى هذا يجوز كونهما فيه إذا استثفرت) ( ).
وذكر العمراني الشافعي مسألة لبث الجنب في المسجد وذكر الخلاف فيه ـ وحكم الجنب والحائض في المسألة واحد ـ قال: (وقال المزني وداود: يجوز له اللبث فيه) ( ).
وقال ابن حزم: (وهذا قول المزني وداود وغيرهما) ( ).
وأشار الشوكاني إلى رأي المزني بقوله: (والحديثان يدلان على عدم حل اللبث في المسجد للجنب والحائض وهو مذهب الأكثر ... وقال داود والمزني وغيرهما: إنه يجوز مطلقا) ( ).
أما رواية الحنابلة فقد أشار إليها المرداوي بقوله: (تمنع الحائض من اللبث في المسجد مطلقا على الصحيح من المذهب، وعليه جمهور الأصحاب، وقيل: لا تمنع إذا توضأت وأمنت التلويث ...) ( ).
وقال البغدادي: (وكذلك اللبث في المسجد مطلقا على الصحيح من المذهب، وعليه جمهور علمائنا، وقيل: لا تمنع إذا توضأت وأمنت التلويث) ( ).
وقال ابن مفلح: (ويمنع – أي الحيض – اللبث في المسجد وقيل: لا بوضوء)( ). إلا أن البعلي في حاشيته على الفروع ذكر بأن جواز لبث الحائض في المسجد بوضوء هو عند انقطاع دمها لا قبله حيث يقول: (قال الشيخ مجدالدين في شرح الهداية في باب الغسل: والحائض والنفساء في إباحة العبور واللبث بالوضوء إذا انقطع دمها كالجنب، فأما قبله فيباح لها العبور بشرط التلجم لتأمن تلويث المسجد، ولا يباح لها اللبث بالوضوء. نص عليه) ( ).
أما ابن حزم فيبين جواز دخول الحائض المسجد بقوله: (وجائز للحائض والنفساء أن يتزوجا وأن يدخلا المسجد ...) ( ).
دليل أصحاب هذا القول:
استدل القائلون بجواز مكث الحائض في المسجد بأدلة منها:
1 - البراءة الأصلية، أي أنه لم يرد نص صحيح صريح ينهى الحائض عن دخول المسجد. قال ابن حزم في تعليل ذلك: (لأنه لم يأت نهي عن شيء من ذلك) ( ).
نوقش هذا الاستدلال:
بأنه قد وردت أحاديث تمنع من دخول الحائض المسجد، كحديث "لا أحل المسجد لحائض ولا جنب" وحديث اعتزال الحائض مصلى العيد، وترجيل عائشة – رضي الله عنها – النبي – صلى الله عليه وسلم – وهي حائض خارج المسجد وغيرها من الأحاديث.
ونوقشت هذه المناقشة:
بأن الحديث الأول ضعيف كما سبق، أما الثاني والثالث فأحاديث محتملة غير صريحة في الموضوع وقد سبق بيان ذلك. ( )
2 - عن عائشة – رضي الله عنها – أن وليدة كانت سوداء لحي من العرب فأعتقوها فكانت معهم. قالت: فجاءت إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأسلمت، فكان لها خباء( ) في المسجد ... . ( )
وجه الدلالة من الحديث أن هذه المرأة ساكنة في مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم – على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والمعهود من النساء الحيض، ولم يرد أنه – صلى الله عليه وسلم – منعها من سكنى المسجد، ولا أنه أمرها وقت حيضها أن تعتزل المسجد، فدل على جواز دخول الحائض في المسجد، ومكثها فيه، ولذلك استدل شراح الحديث بهذا الحديث على جواز مبيت المرأة في المسجد. قال ابن حجر: (وفي الحديث إباحة المبيت والمقيل في المسجد لمن لا سكن له من المسلمين، رجلا كان أو امرأة عند أمن الفتنة) ( ).
وقال ابن بطال: (قال المهلب: فيه أنه من لم يكن له مسكن ولا مكان مبيت أنه يباح له المبيت في المسجد، واصطناع الخيمة وشبهها للمسكن، امرأة كانت أو رجلا) ( ).
نوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: بأنه يجوز للمرأة النوم في المسجد إن أمنت الفتنة، ولكنها تخرج عند الحيض، فنومها في المسجد ليس معناه إقرار بقائها فيه وهي حائض، بل تخرج عندما تحيض.
الثاني: أنه ربما كان خباؤها في طرف المسجد خارجا منه حين تحيض.
وقد نص الفقهاء على أن من مفسدات الاعتكاف الحيض، فإذا حاضت المرأة وهي معتكفة يجب عليها الخروج من المسجد.
ففي حاشية ابن عابدين: (المقصد الأعلى من شريعة الاعتكاف انتظار الصلاة بالجماعة، والحائض والنفساء ليسا من أهل الصلاة، أي فلا يصح اعتكافهما) ( ).
وقال القاضي عبدالوهاب: (وكذلك الحائض تخرج من المسجد ويبطل اعتكافها، فأما خروجها من المسجد فلأن الحيض يمنع الإقامة فيه)( ).
وقال الشربيني الخطيب: (... أو طرأ الحيض أو النفاس على معتكفة وجب عليها الخروج من المسجد لتحريم المكث عليها) ( ).
وقال المرداوي: (تخرج المرأة للحيض والنفاس إلى بيتها إن لم يكن للمسجد رحبة، فإذا طهرت رجعت إلى المسجد) ( ).
واستدلوا بحديث عائشة – رضي الله عنها – قالت: كن المعتكفات إذا حضن أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بإخراجهن من المسجد وأن يضربن الأخبية في رحبة المسجد حتى يطهرن. ( )
نوقشت هذه المناقشة:
بأننا لا نسلم بأن الحيض من مفسدات الاعتكاف لتحريم لبثها في المسجد، وتحريم لبثها في المسجد موضع نقاش ولا نسلم بذلك.
ثم إن احتمال كون خبائها في طرف المسجد خارجا منه احتمال ضعيف، إذ الحديث صريح في أن لها خباء داخل المسجد، ولذلك بوب البخاري لهذا الحديث: بأن نوم المرأة في المسجد، أي داخله لا خارجه. قال ابن حزم في الحديث: (فهذه امرأة ساكنة في مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم – والمعهود من النساء الحيض، فما منعها عليه السلام من ذلك ولا نهى عنه، وكل ما لم ينه عنه عليه السلام فمباح) ( ).
أما استدلالهم بحديث عائشة فيجاب عنه من أربعة أوجه:
الأول: أنه حديث غير معروف في كتب الصحاح والسنن والمسانيد.
الثاني: أنه لو صح فهو معارض بحديث المرأة التي كانت ساكنة المسجد ولم يأمرها النبي – صلى الله عليه وسلم – بالخروج، والحديث في صحيح البخاري.
الثالث: أنه لو صح فهو محمول على المكث طويلاً في المسجد، أما المكث القصير لحضور درس ونحوه فلا يمنع.
الرابع: أنه معارض بالأحاديث الدالة على جواز اعتكاف المستحاضة، مع أن المستحاضة حدثها دائم، بمعنى أن دمها مستمر النزول، أما الحائض فإنه ينقطع خلال يومين أو ثلاثة، فإذا جاز للمستحاضة المكث في المسجد والاعتكاف مع استمرار حدثها فالحائض أحرى وأولى.
3 - حديث عائشة – رضي الله عنها – السابق عندما حاضت وفيه: "افعلي كل ما يفعله الحاج إلا أن تطوفي بالبيت"( )، فعائشة – رضي الله عنها – إنما منعت من الطواف لأن الطواف بالبيت صلاة، فمنعت من الطواف فقط، ولم يمنعها النبي – صلى الله عليه وسلم – من دخول المسجد، ولما جاز للحجيج أن يدخلوا المسجد جاز لها – وهي حاجة – أن تدخله أيضا.
قال ابن حزم: (ولو كان دخول المسجد لا يجوز للحائض لأخبر بذلك عليه السلام عائشة، إذ حاضت فلم ينهها إلا عن الطواف بالبيت فقط، ومن الباطل المتيقن أن يكون لا يحل لها دخول المسجد فلا ينهاها عليه السلام عن ذلك، ويقتصر على منعها من الطواف) ( ).
نوقش هذا الاستدلال:
بأن الحديث فيه التصريح بعدم جواز طواف الحائض بالبيت، والبيت داخل المسجد، فهي ممنوعة من دخول المسجد.
ونوقشت هذه المناقشة:
بأن الحائض ممنوعة من الطواف بنص حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – لكنها غير ممنوعة من المسجد لعدم تصريح النبي – صلى الله عليه وسلم – بذلك، والمعروف عند علماء الأصول أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فلما لم يبين النبي – صلى الله عليه وسلم – أن الحائض ممنوعة من دخول المسجد والحاجة داعية إلى ذلك، علم جواز دخولها المسجد.
4 - حديث جابر بن عبدالله – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ...)( ).
ووجه الدلالة في قوله: "وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" فجعلت الأرض كلها مسجدا للنبي – صلى الله عليه وسلم – ولأمته، ومنهم الحائض، يباح لها جميع الأرض وهي مسجد، فلا يجوز أن يخص بالمنع من بعض المساجد دون بعض. ( )
نوقش هذا الاستدلال:
بأن هذا الحديث عام مخصص بأحاديث منع الحائض من اللبث في المسجد.
ونوقشت هذه المناقشة:
بأن الأحاديث الواردة في ذلك ضعيفة فلا يصح أن يخصص بها العموم، فيبقى العموم على عمومه، ويبقى الحكم شاملا للحائض وغيرها.
5 - حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لقيه في بعض طريق المدينة وهو جنب، فانخنس منه، فذهب فاغتسل ثم جاء فقال: "أين كنت يا أبا هريرة؟" قال: كنت جنبا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال: "سبحان الله إن المسلم لا ينجس" .. وفي رواية: "إن المؤمن لا ينجس"( ).
ووجه الدلالة من الحديث هو طهارة المؤمن، فالمؤمن طاهر، رجلا كان أم امرأة، فإذا كانت المرأة طاهرة غير نجسة فلم تمنع من دخول المسجد؟( )
قال النووي: (فإذا ثبت طهارة الآدمي مسلما كان أو كافرا، فعرقه ولعابه طاهران سواء كان محدثا أو جنبا أو حائضا أو نفساء، وهذا كله بإجماع المسلمين) ( ).
نوقش هذا الاستدلال:
بأن المرأة طاهرة لكنها ممنوعة – إذا حاضت – من دخول المسجد، حتى لا تلوث المسجد بنجاسة دم الحيض.
ونوقشت هذه المناقشة:
بأن الفقهاء متفقون على أن علة منع الحائض من دخول المسجد خوف تلويث المسجد بالنجاسة، والحائض اليوم تستطيع بسهولة بالغة التحفظ عن النجاسة، فلا يبقى مانع من دخولها المسجد.
الترجيح:
بعد ذكر أدلة القولين ومناقشة كل دليل يترجح عندي القول الثاني القائل بجواز لبث الحائض في المسجد، على أن يقيد ذلك بحاجة المرأة إلى دخول المسجد لحضور درس أو محاضرة، ونحوها من الأنشطة المفيدة للمرأة. وسبب الترجيح أمور منها:
1 - أنه لم يثبت – كما سبق – حديث صحيح صريح في منع الحائض من اللبث في المسجد، إذ الحديث الوحيد الصريح في ذلك هو حديث "لا أحل المسجد لحائض ولا جنب"، وهو حديث ضعيف كما فصلت القول في ذلك، بل هو مخالف لكثير من الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تبيح وتجيز دخول الحائض المسجد، والتي قال بها من يرى جواز عبور الحائض المسجد مع تحريمه لمكثها فيه.
2 - أنه قد وردت أحاديث كثيرة – سبق ذكرها – تجيز للحائض الدخول إلى المسجد، وقد قال بها كثير ممن يرى تحريم مكث الحائض بالمسجد، وهذه الأحاديث صريحة في الموضوع، وأن الحائض غير ممنوعة من قربان المسجد، فإذا كانت غير ممنوعة من الدخول إلى المسجد فلم تمنع من المكث فيه!
3 - أن كثيرا من الفقهاء يقيس الحائض على الجنب، ثم يأتي بالأدلة التي تمنع الجنب من دخول المسجد مكثا أو عبورا، وهذا القياس غير صحيح، إذ إن هناك فرقا بين الحائض والجنب، فمدة حدث كل منهما مختلفة، فالجنب أمره يسير، يستطيع أن يتطهر بسرعة، أما الحائض فالأمر مختلف، إذ إنها لا تملك التطهر إلا بعد طهارتها، ونظير ذلك مسألة قراءة القرآن للجنب والحائض، إذ إن من الفقهاء من منعها من القراءة، ومنهم من فرق فقال يجوز للحائض قراءة القرآن دون الجنب، وعلل بالعلة التي ذكرتها، وهي أن هناك فرقا بين الحائض والجنب، فالجنب يستطيع أن يتطهر ثم يعود للقراءة، وأما الحائض فحدثها يطول، فكيف تمنع من ذكر الله هذه المدة الطويلة؟!
4 - يكاد الفقهاء يتفقون على أن العلة من منع الحائض المكث بالمسجد هو خوف تلويث المسجد بالنجاسة، وعلى هذا صريح عباراتهم، عللوا المنع بخوف التلويث، كما ذكر العيني والحطاب والنووي والمرداوي، وغيرهم كثير.( )
وهذه العلة لا خلاف فيها، إذ إن المسجد يجب أن يصان عن النجاسة مطلقا، وهذا لا يختص بدم الحيض، ولذلك نص النووي على هذا الإطلاق حيث قال: (والمستحاضة وسلس البول ومن به جرح سائل ونحوهم إن خافوا التلويث حرم العبور)( ). وقال ابن قدامة: (فأما المستحاضة ومن به سلس البول فلهم اللبث في المسجد والعبور إذا أمنوا التلويث ... فإن خاف تلويث المسجد فليس له العبور، فإن المسجد يصان عن هذا، كما يصان من البول فيه)( ).
والذي يظهر من عبارات النووي وابن قدامة وغيرهما أن الحكم عام، أي لا يجوز تلويث المسجد بالنجاسة مطلقا، سواء كان ذلك من حائض أو مستحاضة أو من به سلس البول ونحوهم، ولذلك نصوا على أن هؤلاء إن أمنوا التلويث جاز لهم الدخول إلى المسجد، فلم لا يقولون ذلك في حق الحائض؟!
5 - أنه وردت أحاديث تجيز للمستحاضة دخول المسجد، والمكث فيه، بل والاعتكاف، فقد ثبت عن عائشة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – اعتكف معه بعض نسائه وهي مستحاضة ترى الدم، فربما وضعت الطست تحتها من الدم.
وفي رواية: اعتكفت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – امرأة من أزواجه فكانت ترى الدم والصفرة، والطست تحتها وهي تصلي. ( )
وقد بوب البخاري لهذا الحديث: باب الاعتكاف للمستحاضة، قال ابن حجر: (أي جوازه)، وقال في فوائد الحديث: (وفي الحديث جواز مكث المستحاضة في المسجد، وصحة اعتكافها، وصلاتها، وجواز حدثها في المسجد عند أمن التلويث) ( ).
وقال العيني: (ومما يستنبط منه: جواز اعتكاف المستحاضة) ( ).
واعتكاف المستحاضة في المسجد أمر معروف بين الفقهاء دون نكير، إلا أنهم اشترطوا أمن التلويث. ( )
فإذا كان الفقهاء أجازوا دخول المستحاضة المسجد، بل واعتكافها فيه إن أمنت التلويث، فينبغي أن يقولوا بجواز مكث الحائض فيه إن أمنت التلويث من باب أولى، ذلك أن دم الحيض ودم الاستحاضة كلاهما نجس، بل إن دم الحيض ينزل في أول يومين ثم يتدرج نزوله حتى لا يبقى منه شيء إلا القليل، بعكس دم الاستحاضة فهو متكرر، لا ينقطع في الغالب، وهو وإن كان أخف من دم الحيض إلا أنه أخذ حكمه بالنجاسة، فلم التفريق؟ والمعلوم أن الشريعة لا تفرق بين متماثلين كما أنها لا تجمع بين مفترقين.
وبهذا يظهر بأن القول الراجح في هذه المسألة هو جواز دخول الحائض المسجد، ولبثها فيه لحاجة، كحضور درس علمي، أو سماع محاضرة مفيدة، ونحوها من الأمور التي تهم المرأة المسلمة – والله أعلم.
الموضوع الأصلي : هل يجوز للحائض أن تبقى في المسجد؟ المصدر : منتدى رحيق الفردوس