مُقَدِّمَةُ التَّخْرِيجِ
التَّخْرِيجُ عَنْدَ أَهْلِ العِلْمِ لَهُ أَهَمِّيّةٌ بَالِغَةٌ جِدًّا، وأَهَمِّيّتُهُ لَا تَكَادُ تَنْحَصِرُ في مَثْلِ هَذِهِ الكَلِمَاتِ، لَكِنْ سَأُوجِزُ أَهَمَّ الأُمُورِ في التَّخْرِيجِ:
أولًا: التَّخْرِيجُ يُحْتَاجُ لِمَاذَا في مَعْرِفَةِ هَل الحَدِيثُ قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَم غَيْرُ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . يَعْنِي أَنَت تَسْمَعُ حَدِيثَ «نِعْمَ العَبْدُ عَبْدُ الله لَو كَان يَقُومُ اللَّيْلَ» (1) وتَوَدُّ أَن تَعْرِفَ مَن الَّذِي قَالَه؛ هَل القَائِلُ هُوَ عُمَرُ، رَضِيَ الله عَنْهُ أَمْ القَائِلُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَأَهَمُّ فَوَائِد التَّخْرِيجِ أَنْ تَعْرِفَ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنْتَفِعُ بِهِ.
إذًا الأَهَمِّيَّةُ الأُولَى أَنَّنَا نَحْتَاج أَنْ نَفْهَمَ؛ هَل هَذَا الكَلَامُ الَّذِي بَيْنَ أَيْدِينَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَم قَالَه غَيْرُهُ.
الأَهَمِّيَّةُ الثَّانِيَةُ أَنَّه لَا يُمْكِن أَنْ نَعْرِفَ صِحَّةَ الحَدِيثِ، بَعْدَ أَنْ عَرَفْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ، إِلَّا إِذَا كُنَّا مُلِمِّينَ بالتَّخْرِيجِ، وَأَنَا لا أَتَكَلَّمُ عَن أَحَدٍ يَسْأَلُ أَحَدَ المَشَايخِ عَن حَدِيثٍ، هَذَا لا يُسَمَّى الآنَ دِرَاسَةَ تَخْرِيجٍ، أَنَا سَالتُ بِنَفْسِي، فَأَنَتَ تَحْتَاجُ لِمَاذَا في مَعْرِفَةِ صِحَّةِ الحَدِيثِ؛ وَذَلكَ لِأَنَّ مِن أَهَمِّ ما يَنْبَنِي عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ صِحَّةُ الحَدِيثِ صِحَّةَ الإِسْنَادِ، وَلَا يُمْكِن أَنْ تَصِلَ لِلْإِسْنَادِ إِلَّا إِذَا وَصَلْتَ لِمَنْ أَخْرَجَهُ مِن العُلَمَاءِ المُتَقَدِّمِينَ حَتَّى تَدْرُسَ الإِسْنَادَ.
أيضًا التَّخْرِيجُ مُهِمّ لِلْجَمِيعِ بِلَا استِثْنَاءٍ، فَلَا يُمْكِنُ لِلْمُعَلِّمِ وَلَا لِلْخَحَسَنٌ الإِفَادَةُ مِن الحَدِيث؛ أَن يَنْتَفِعَ بِالحَدِيثِ وَيَنْفَعَ غَيْرَهُ، ما لَم يَعْرِفُوا شَرْحَهُ، وَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ شَرْحِهِ إِلَّا بِمَعْرِفَةُ ِمَن أَخْرَجَهُ ثُمَّ مَعْرِفَةِ مَوْضِعِهِ مِن الكِتَابِ الَّذِي أَخْرَجَهُ.
خُذُوا مِثَالاً:
نَظَرْتُ في حَدِيثِ «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن الشِّغَارِ» (2) حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ (3) لَمَّا خَرَّجْتُ الحَدِيثَ وَجَدْتُ أَنَّ الَّذِي أَخْرَجَهُ
اَوَّلًا البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَمَالِكٌ والتِّرْمِذِيُّ والنَّسَائِيُّوَالإِمَامُ أَحْمَدُ هَذِهِ الكُتُبُ لَهَا عِدَّةُ شُرُوحٍ، فَفِي المَوْضِعِ الَّذِي ذَكَرَهُ الإِمَامُ مَالِكٌ، مَثَلًا، نَجِدُ أَنَّ ابنَ عَبْدِ البَرِّ ذَكَرَهُ عَنْدَ تَرْجَمَةِ ذَلِكَ الشَّيْخِ البَاجِيِّ (4) في المُنْتَقَى، وكَذَلِكَ ابنُ العَرَبِيِّ (5) في القَبَسِ سَتَجِدُهُ في نَفْسِ المَوْضِعِ، وتَجِدُ كَلَامَ هَؤُلَاءِ الأَئِمَّةِ الأَجِلَّةِ عَلَى هَذَا الحَدِيثِ كَذَلِكَ.
فمَثَلًا: «صَحِيحٌ البُخَارِيِّ» لَه عِدَّةُ شَرَوحٍ، سَتَجِدُ شَرْحَ هَذَا الحَدِيثِ في نَفْسِ الكِتَابِ وَالبَابِ الَّذِي خَرَّجْتَ الحَدِيثَ مِنْهُ مِن الشُّرُوحِ، حَتَّى لَو كُنْتَ تَعْمَلُ عَلَى مَخْطُوطِ الشَّرْحِ، بِمُجَرَّدِ أَنَّكَ تَرْجِعُ إِلَى شَرْحِ فَتْحِ البَارِيِّ، كِتَابِ النِّكَاحِ، بابِ النَّهْيِ عَن نِكَاحِ الشِّغَارِ، سَتَجِدُ كَلَامَ ابنِ حجَرٍ(6) وكَلَامَ العَيْنِيِّ (7) وكَلَامَ القَسْطَلَانِيِّ (8) وكَلَامَ ابنِ بَطَّاٍل (9) وكَلَامَ أَكْثَرِ الشَّرَّاحِ في نَفْسِ المَوْضِعِ.
أَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَشْرَحَ وَتَبَيِّنَ لِلنَّاسِ، أَو تُرِيدُ مَثَلًا في بِدَايَةِ الإِجَازَةِ الصَّيْفِيَّةِ أَنْ تَتَكَلَّمَ عَن أَنْوَاعِ الأَنْكِحَةِ المُحَرَّمَةِ، وتُرِيدُ أَنْ تَعْرِفَ مَعْنَى الشِّغَارِ، فَعْنْدَمَا رَجَعْنَا لِلْحَدِيثِ وَجَدْنَا أَنَّه يُوجَدُ في «سُنَنِالتِّرْمِذِيِّ» زِيَادَةٌ مُهِمّة تُبَيِّنُ مَعْنَى الشِّغَارِ في الحَدِيثِ، لِأَنَّ الحَدِيثَ «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن الشِّغَارِ» قَالَ: وَالشِّغَارُ أَن يُزَوَّجَ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الآخَرُ ابْنَتَهُ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ.
هَذِهِ الزِّيَادَةُ جَاءَتْ عَنْدَ التِّرْمِذِيِّ (10) وفِيهَا تِبْيَانُ الَّذِي أَدْرَجَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ: (قَالَ نَافعٌ (11): وَالشِّغَارُ هُوَ كَذَا).
مَا الفَائِدَةُ؟ أَنَا اسْتَفَدْتُ مِن التِّرْمِذِيِّ الآنَ النَّصَّ عَلَى أَنَّ تَفْسِيرَ الشِّغَارِ جَاءَ مِن نَافِعٍ، إِذ لَو كَانَ تَفْسِيرُ الشِّغَارِ مِن النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَلَزِمَ تَفْسِيرُ مَعْنَى الشِّغَارِ عَلَى أَنَّه خُلُوُّ النِّكَاحِ مِن الصَّدَاقِ، فَأَيُّ نِكَاحٍ يَخْلُو مِن الصَّدَاقِ يَحْرُمُ، لَكِن لَمَا عَلِمْنَا أَنَّ الَّذِي زَادَ هُوَ نَافِعٌ، كَلَامُ نَافِعٍ غَيْرُ حُجَّةٍ عَلَيْنَا وَعَلَى العُلَمَاءِ الآخَرِينَ، هُوَ إِمَامٌ نَعَم، لَكِنْ غَيْرُ حَجَّةٍ، فَنَظَرْنَا في الأَدِلَّةِ الأُخْرَى فَوَجَدْنَا أَنَّ العِلَّةَ في النَّهْيِ لَيْسَتْ هِيَ خُلُوَّهَا مِن المَهْرِ، كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ عَنْدَ كَثِيرٍ مِن أَهْلِ العِلْمِ، وَلَكِنَّ العِلَّةَ كَمَا رَجَّحَهَا أَهْلُ العِلْمِ، مِنْهُمْ شَيْخُنَا الشَّيْخُ ابن بَازٍ رَحْمَةُ الله عَلَيْهِ هِيَ وُجُودُ الِاشْتِرَاطِ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ، حَتَّى لَو سَمَّى هَذَا مِائَةَ الفٍ وَهَذَا مِائَةَ الفٍ. وهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَجَدْنَاهَا عَنْدَ التِّرْمِذِيِّ.
إذًا هِيَ فَائِدَةٌ مُهِمّة اسْتَفَدْتُ مِنهَا في القَائِي لِلدَّرْسِ أو الخُطْبَةِ أو المُحَاضَرَةِ وَمَا إِلَى ذَلِكَ، فَلَا تَسْتَهِينُوا بِوُجُودِ الحَدِيثِ في أَيِّ مَرْجِعٍ؛ لِأَنَّكَ سَتَجِدُ فَائِدَةً أَو نَقْطَةً تَرْبَوِيَّةً تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الحَدِيثِ عَنْدَ هَذَا المُخَرِّجِ وَعِنْدَ هَذَا الشَّارِحِ، وَلَو كَانَ الكِتَابُ مُكَوَّنًا مِن مُجَلَّدٍ وَاحِدٍ. وَأَنَا جَرَّبْتُ في تَدْرِيسِي في الجَامِعَةِ، وَجَدِتُ هَذَا كَثِيرًا، فَأَحْيَانًا أَجِدُ فَائِدَةً في كِتَابٍ ما يَخْطِرُ عَلَى بَالي أَنْ يَكُونَ لَهَا أَثَرٌ كَبِيرٌ في تَقْوِيمِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ.
هَذَا ما يَتَعَلَّقُ بأَهَمِّيَّةِ التَّخْرِيجِ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ الله في فَوَائِد التَّخْرِيجِ في آخِرِ هَذَا اللِّقَاءِ كَثِيرٌ مِن فَوَائِدِهِ الخَاصَّةِ وَبَيَانُ أَهَمِّيَّتِهَا؛ لَأَنَّهُ كَلَّمَا كَثُرَت الفَوَائِد زَادَتْ الأَهَمِّيَّةُ.
الموضوع الأصلي : علم التخريج -المقدمة- المصدر : منتدى رحيق الفردوس