بسم الله الرحمان الرحيم
(( القصة الأولى ))
قال الشيخ علي الحلبي – حفظه الله – في شريط ( علو الهمة في طلب العلم ) بعد أن ذكر كلام القاسمي عن جرده لبعض الكتب ، وحدوث المرد لعينه – قال الشيخ علي : وقصة الرمد هذه ذكرتني بقصة لشيخنا - رحمه الله - في الستينيات ؛ قبل نحو أكثر من أربعين عاما من هذا اليوم ، أصيب شيخُنا بمرض في عينه سمعته يصف هذا المرض بأن اسمه ( الذبابة الطائرة ) ، هذا المرض عند الأطباء اسمه مرض ( الذبابة الطائرة ) ، كأن الواحد يرى في عينه أن هناك ذبابة تطير ، وفي الحقيقة لا يوجد ذبابة تطير ؛ فذهب إلى طبيب ؛ وقال له : أنا عندي كذا .
فقال الطبيب : هذا يوجد بعض علاجات ، لكن أهم شيء أن ترتاح .
قال : كيف أنا أرتاح عنها ؟
أولا : عندي مهنة الساعات ، وأنا مؤلف كتب ، مهنة الساعات تحتاج بصرا دقيقا جدا ، وتأليف الكتب أنا كنت كل الكتب التي أراجع منها مخطوطة ، وقديمة في المكتبة الظاهرية .
قال : إذا أردت أن تشفى فلابد من ذلك .
فقال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، رضينا .
فجلس أول يوم ، ثاني يوم ، قال : ما المانع أن أتسلى بكتاب ؟!
فقال : رأيت كتابا اسمه ( ذم الملاهي ) للإمام ابن أبي الدنيا له نسخة في الظاهرية ، قال : أنا سأعطيه إلى بعض النساخين ، ينسخه ، فكلما أتاني بأوراق كلما بدأت أنا أنظر فيها بحيث لا أتعب نفسي .
قال : فعلا بدأنا وأنا لا أتعب نفسي ، يأتيني كل يوم بورقتين ثلاث ، وأنا مرتاح ، ولا أجهد نفسي ، ولا عيني ، قال : بعد أيام فإذا به يقول لي : ياشيخ ! هنا سقطت ورقة - في المخطوطة يوجد ورقة ساقطة ورقة ضائعة - هذه الورقة – أتأكد ؟ فعلا وجد ورقة ضائعة ، قال : فسأبحث عن الورقة ، يعني البحث عن الورقة الضائعة أيضا لا يعارض وصية الطبيب ، الذي أوصاني بأن لا أجهد نفسي ، هو بحث ليس فيه مشقة .
قال : فبدأت أبحث وأبحث انتهى من كتب الحديث جميعا ، وهو يبحث عن مخطوطات ، وهو ينسى ! نسي - الآن - أن به مرضا ، وانتهى من كتب التفسير المخطوطة ، الكلام عن المخطوطات ! وانتهى ، وانتهى ، وانتهى ، بعد أن انتهى قال : هذا كنز ! وأنا أبحث عن الورقة وجدت كنزا ، لكنَّ جهدي في الورقة أنساني هذا الكنز ، فقرأ المكتبة من جديد مرة ثانية ، لكن ماذا فعل هذه المرة ؟
أتى بأوراق كل حديث يجده في هذه المخطوطات يدونه في ورقة ، فإذا وجد حديثا آخر يدونه في ورقة ، ثم رتب هذه الأوراق على الحروف ؛ فإذا بالأوراق جمعت أربعين ألف حديث !!
هذا كله وهو يبحث عن الورقة الضائعة ، وبالمناسبة لم يجدها !! لم يجدها !
لكن سبحان الله ! إذا شاء الله أمرا هيأ أسبابه ، كنت مرة أقرأ في جريدة سعودية أظنها جريدة الجزيرة ، فإذا بأحد المحقيق ؛ لأن فيها صفحة تراثية ، فمن يعرف جريدة الجزيرة يرى أن فيها صفحة تراثية ، أو صحيفة المدينة عفوا ، فإذا بأحد المحقيقن ينتقد طبعة ( ذم الملاهي ) التي طبعا شيخنا لم يحققها ؛ لأن الورقة ضائعة ونسي الكتاب ، وشفيت عينه بعد ذلك ، ولله الحمد ؛ لكثرة ما كان يدعو : اللهم عافنا في أبصارنا ، وأسماعنا ، واجعلهما الوارث منا ، هذا كان شيخُـنا شديد اللهج به .
فأنا مرة رأيت في صحيفة المدينة - وأنا في العادة لا أقرأها ، ولكن إذا كنت في عمرة في أو حج ويتيسر لي أشتريها وأنظر ما فيها - فإذا بمحقق ، باحث من علماء المدينة - فيما أذكر - ينتقد الطبعة المصرية من كتاب ذم الملاهي ، ويقول : وقفت على نسخة تركية كاملة ، وهو اعتمد نسخة الظاهرية التي فيها ورقة مفقودة ، وهذه صورة الورقة المفقودة ، ووضعها ، فأتيت بالجريدة لشيخنا وقلت له : هذه صورة الورقة الضائعة التي أنتجت كتاب ( معجم الحديث ) في أربعين مجلدا .
وهكذا العلم ؛ وانظروا صبر العلماء !
(( القصة الثانية ))
الشيخ الألباني - رحمه الله - شيخنا وأستاذنا نسأل الله أن يرحمه - في حرب الخليج أصاب جنون في بلادنا في الأحاديث وفي الروايات المكذوبة والموضوعة ؛ حتى صار بعض الخطباء ، يطوف بكتاب ( الجفر ) المكذوب المنسوب بالبهت والافتراء إلى علي - رضي الله عنه - ، وهو كله كتاب سحر وشعوذة ، وخرافات ، يقول : انظروا ! كتاب ( الجفر ) يتحدث عن حرب الخليج ، وكذا ، وكذا ... إلى آخره .
وقام بعض الخطباء في ذلك الوقت بتصوير حديث نقله من ( كنز العمال ) للمتقي الهندي ، و( كنز العمال ) في نحو من خمسين ألف حديث ، هو في الأصل ترتيب لـ ( جمع الجوامع ) للسيوطي ، و( جمع الجوامع ) هو نفسه ( الجامع الكبير ) الذي أراد السيوطي من خلاله أن يجمع السنة ، أول محاولة علمية لجمع السنة موسوعيا = محاولة السيوطي في ( جمع الجامع ) ، لكن فيه مما هب ودب - كما يقال - ؛ لأنه لم يشترط الصحة .
في كنز العمال يوجد رواية عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : تقتتلون شهرا ، ثم يقذف الطير عليكم ، ثم كذا !
فماذا ؟
جاء الخطيب المفوه ! والذي ليس من العلم ، ولا من السنة في شيء ، قال : تقتتلون شهرا = الحرب البرية .
ثم يقذف الطير عليكم = الحرب الجوية .
والناس عقولهم هباء .
ونسبه حديثا للرسول ، وليس هو بحديث ، وعندما بحثنا وجدنا أن كلمة ( ويقذف الطير عليكم ) محرفة من ( ويقذف الصبر عليكم !! ) .
فإذا به - في كتاب ( كنز العمال ) - يعزو الحديث إلى ( تاريخ ابن عساكر ) ، و( تاريخ ابن عساكر ) في ذلك الوقت لم يطبع ، وإنما منه بضعة مجلدات صغيرة طبعت في المجمع العلمي في دمشق ، والنسخة المخطوطة صورتها بعض المكتبات في المدينة النبوية في بضعة عشر مجلدا ، كل مجلد في ألف ورقة مخطوطة ، والورقة المخطوطة هذه كالذارع ، أو الباع .
فالشيخ بدأ يبحث أين ؟
في المخطوطة .
الورقة الأولى ، الثانية ، المجلد الأول ، الثاني .... فجئته في اليوم الرابع ، فإذا به وجده - أظن إما في ( المجلد التاسع ! ) ، أو ( العاشر !! ) - قلت له : يا شيخنا ! وجدت الحديث ؟
فنظر إلي هكذا (1) ؛ وقال : وجدته ، ولا نامت أعين الجهلاء ، ولا نامت أعين الجلاء ، لم ينم في الأربعة أيام إلا النزر اليسير ، وهو يجد ويبحث في هذا الحديث - رحمه الله تعالى -
هذا من علو الهمة .
هذا من معرفة الواجب الملقى على أكتاف أهل العلم ، فهم يقدرونه قدره ، ويعطونه منزلته . انتهى .
(1) قلت ( أشرف ) : وهنا فعل الشيخ علي حركة وهي : أنه أنزل رأسه قليلا ورفع عينه إلى أعلى .
الموضوع الأصلي : قصتان عن الإمام الألباني - رحمه الله - تحكيان همته العالية في طلب العلم والبحث المصدر : منتدى رحيق الفردوس