إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، أمّا بعد:
فيغلب استعمال لفظ النيّة عند الفقهاء للدلالة على القصد بمعنيَيْه:
• قصد الفعل المراد تحقيقه وإحرازه أوّلاً، وهو قصد العبادة ويسمّى النيّة المباشرة أو النيّة الأولى،
• والثاني قصد الغاية المبتغاة من وراء تلك العبادة أو ذلك الفعل، وهو قصد المعبود، ويسمّيه علماء التوحيد والسلوك ﺑ«الإخلاص» أو النيّة غير المباشرة أو النيّة الثانية، وقد نصّ ابن
تيميّة(١- انظر ترجمته في مؤلّفي: «الإعلام بمنثور تراجم المشاهير والأعلام» ص (28).) رحمه الله (ت: 728) على هذا التّقسيم بقوله: «أنّ النيّة المعهودة في العبادات تشتمل على
أمرين: على قصد العبادة وعلى قصد المعبود.
وقصد المعبود هو الأصل الذي دلّ عليه قوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البيّنة: 5]، وقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ
فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»(٢- أخرجه البخاري في «الإيمان» باب ما جاء أنّ الأعمال بالنيّة والحسبة ولكلّ
امرئٍ ما نوى (1/ 20)، ومسلم في «الإمارة» (2/ 920) رقم (1907)، من حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه.) فإنّه صلّى الله عليه وسلّم ميّز بين مقصودٍ ومقصودٍ، وهذا المقصود
-في الجملة- لا بدّ منه في كلّ فعل اختياريّ..
وأمّا قصد العبادة فقصدُ العمل الخاصّ، فإنّ من أراد اللهَ والدّارَ الآخرة بعمله: فقد يريده بصلاةٍ وقد يريده بحجٍّ، وكذلك مَن قصد طاعتَه بامتثال ما أمره به فقد أطاعه في هذا العمل، وقد
يقصد طاعته في هذا العمل، فهذا القصد الثاني مثل قصد الصلاة دون الصوم، ثمّ صلاة الظهر دون صلاة العصر، ثمّ الفرض دون النفل، وهي النيّة التي تُذْكَر غالبًا في كتب الفقه
المتأخّرة، وكلّ واحدة من النيّتين فرضٌ في الجملة.
أمّا الأولى: فبها يتميّز من يعبد الله مخلصًا له الدّين ممّن يعبد الطّاغوتَ أو يشرك بعبادة ربّه، ومن يريد حرث الآخرة ممّن يريد حرث الدّنيا، وهو الدّين الخالص لله الذي تشترك فيه جميع
الشّرائع، الذي نهى الأنبياءَ عن التّفرّق فيه كما قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾
[الشّورى: 13]. وأمّا النّيّة الثانية: فبها تتميّز أنواع العبادات وأجناس الشرائع، فيتميّز المصلّي من الحاجّ والصائم، ويتميّز من يصلّي الظهر ويصوم قضاء رمضانَ ممّن يصلّي العصر
ويصوم شيئًا من شوّالٍ، ويتميّز من يتصدّق عن زكاة ماله ممّن يتصدّق من نذرٍ عليه أو كفّارةٍ.
وأصناف العبادات ممّا تتنوّع فيه الشرائع، إذ الدينُ لا قِوامَ له إلاّ الشريعة، إذ أعمال القلوب لا تتمّ إلاّ بأعمال الأبدان، كما أنّ الروح لا قوام لها إلاّ البدن»(٣- «مجموع الفتاوى» لابن
تيميّة (26/ 23-25).) [بتصرّفٍ].
وهذا المعنى أفصح عنه ابن حزمٍ(٤- انظر ترجمته في مؤلّفي: «الإعلام بمنثور تراجم المشاهير والأعلام» ص (243).) رحمه الله (ت: 456) من قبلُ حيث اعتبر النيّة «سرّ العبوديّة
وروحها، ومحلّها من العمل محلّ الرّوح من الجسد، ومحالٌ أن يُعتبر في العبوديّة عملٌ لا روح له معه، بل هو بمنزلة الجسد الخراب»(٥- «إحكام الأحكام» لابن حزم (2/
706-707).).
هذا، والنّيّات تشكّل مباحثَ هامّةً في مختلف العلوم وأبواب الفقه، وهي غير محصورةٍ بعددٍ، وإن صرّح الشّافعيّ -رحمه الله- أنّ حديث النّيّة يدخل في سبعين بابًا من الفقه، وما ترك
لمبطلٍ ولا مضارٍّ ولا محتالٍ حجّةً إلى لقاء الله تعالى(٦- انظر: «الأشباه والنظائر» للسيوطي (9)، «فيض القدير» للمناوي (1/ 32).)، فقد علّق النّوويّ(٧- انظر ترجمته في مؤلّفي:
«الإعلام بمنثور تراجم المشاهير والأعلام» ص (401).) رحمه الله (ت: 676) على ذلك بأنّه لم يُرِدِ انحصار أبوابه في هذا العدد، بل إنّها أكثر من ذلك(٨- انظر: «شرح البخاري»
للعيني (1/ 22).)، وقال السيوطيّ(٩- هو جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المصري الشافعي، الإمام الفقيه، الحافظ المحدّث، المؤرّخ الأديب، له مصنّفات كثيرةٌ نافعةٌ منها:
«الأشباه والنظائر في فروع الشافعيّة»، و«الأشباه والنّظائر في العربيّة»، و«طبقات الحفّاظ»، و«طبقات المفسّرين»، و«الحاوي للفتاوي»، توفّي رحمه الله سنة (911). انظر ترجمته
في: «حسن المحاضرة» للسيوطي (1/ 335)، «الكواكب السائرة» للغزّي (1/ 226)، «شذرات الذهب» لابن العماد (8/ 51)، «البدر الطالع» للشوكاني (1/ 328)، «الضوء اللامع»
للسخاوي (4/ 65)، «الفكر السامي» للحجوي (2/ 4/ 351). ) رحمه الله (ت: 911) في آخِرِ قاعدة «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ما نصّه: «اشتملت قاعدة «الأُمُورُ بِمَقَاصِدِهَا» على عدّة
قواعدَ كما تَبيّن ذلك مشروحًا، وقد أتينا على عيون مسائلها، وإلاّ فمسائلها لا تحصى وفروعها لا تستقصى»(١٠- «الأشباه والنظائر» للسيوطي (49).).
لذلك كان أمر النيّات محلّ عناية العلماء على اختلاف تخصّصاتهم، فحظيت موضوعاتها بالتّأليف والتناول، وأُفردت لها مؤلفاتٌ ورسائلُ، منها: ما ألّفه ابن تيميّة رحمه الله (ت: 728) في
كتابٍ فريدٍ سمّاه «الأعمال بالنّيّات»(١١- وهو كتاب مطبوع حقّقه وخرّج أحاديثه عبد الله حجّاج - دار الشهاب - باتنة - الجزائر.)، كما وضع أبو العبّاس القرافيّ(١٢- انظر ترجمته في
مؤلّفي: «الإعلام بمنثور تراجم المشاهير والأعلام» ص (22).) رحمه الله (ت: 684) مؤلَّفه الموسوم ﺑ«الأمنية في إدراك النيّة»(١٣- طبع مرّات عديدة، وممّن حقّقه د. مساعد بن قاسم
الفالح، ونشرته مكتبة الحرمين - الرياض (1408ﻫ/ 1988م).)، وشرح السيوطيّ رحمه الله (ت: 911) حديث النيّات في كتاب بعنوان: «منتهى الآمال شرح حديث: إِنَّمَا الأَعْمَالُ»(١٤-
وهو كتاب مطبوع ومتداول حقّقه: مصطفى عبد القادر عطا - دار الكتب العلميّة - بيروت - لبنان، الطبعة الأولى (1406ﻫ/ 1986م).)، وكذا شرحه محمد عارف بن أحمد في مؤلَّفٍ
سمّاه: «الذّخيرة المَرْضِيّة في شرح: إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ»(١٥- كتاب مخطوط بدار الكتب الظاهريّة - دمشق.)، وللدكتور صالح بن غانم السدلان كتابٌ بعنوان: «النيّة وأثرها في الأحكام
الشرعيّة»(١٦- نشرته مكتبة الخريجي - الرياض - سنة (1404ﻫ/ 1984م).)، وللدكتور عمر سليمان الأشقر -أيضًا- مؤلَّفٌ موسومٌ ﺑ«مقاصد المكلَّفين فيما يُتعبَّد به لربّ العالمين» أو
«النيّات في العبادات»(١٧- نشرته مكتبة الفلاح - الكويت – سنة (1401ﻫ/ 1981م).)، وكذا لمحمّد رؤوف بهنسيّ مؤلَّفٌ بعنوان: «النيّة في الشريعة الإسلاميّة»(١٨- طبع ثانية سنة
(1407ﻫ/ 1987م) - مؤسسة الخليج العربي - القاهرة.) وغيرهم.
ونظرًا لعظيم موقع النيّات وخطرها على الأعمال؛ فقد رأيت من المفيد أن أُسْهِمَ في تقريب مادّتها وموضوعاتها إلى الأفهام، وإظهار حقيقتها وما يتّصل بها من أحكامٍ في هذه الرسالة
المتواضعة التي سمّيْتُها: «تقريب الأفهام إلى ما في مباحث النيّة من الأحكام».
وأخيرًا أسأل اللهَ تعالى العونَ والتوفيق والسداد في تحقيق المبتغى والمزيد من كلّ عملٍ جادٍّ، فهو نِعْمَ المعين على الخير، وخير كفيلٍ بالثّواب، وصدق الشاعر إذ يقول:
إِذَا لَمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِنَ اللهِ لِلْفَتَى فَأَوَّلُ مَا يَجْنِي عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ(١٩- انظر: «نفح الطيب» للمقري (6/ 177).)
وقال آخَرُ:
إِذَا لَمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِنَ اللهِ لِلْفَتَى أَتَتْهُ الرَّزَايَا مِنْ وُجُوهِ الفَوَائِدِ(٢٠- انظر: المصدر السابق (6/ 310، 314).)
وقال آخَرُ:
إِذَا لَمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِنَ اللهِ لِلْفَتَى فَكُلُّ مُعِينٍ مَا عَدَا اللهَ خَاذِلُ(٢١- انظر: «ديوان عبد الغفّار الأخرس» (903).)
والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدّين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 23 من ذي القعدة 1431ﻫ
الموافق ﻟ: 31 أكـتـوبـر 2010م
الموضوع الأصلي : تقريب الأفهام إلى ما في مباحث النية من الأحكام المصدر : منتدى رحيق الفردوس